الأحد، 8 يوليو 2012

كيف نتعامل مع السنة النبوية

كيف نتعامل مع السنة النبوية

للاخت



يوسف القرضاوي

دار الشروق- ط ثانية 1423 هج- 2002م



السنة النبوية هي الوحي الثاني أو الوحي غير المتلو وتمثل المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، وتدور السنة النبوية مع القرآن الكريم شرحا وبيانا وتفصيلا وتقييدا وتخصيصا، وتكتسب السنة مكانتها وحجيتها بصريح القرآن نفسه في آيات عديدة مثل:
" لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " آل عمران: 164

" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" النساء : 59

وقد عني المسلمون عناية عظيمة بالسنة النبوية، وكانت البداية بحفظها وتدوينها ثم تطور الأمر إلى نشأة وازدهار علوم الحديث ومنها علم الجرح والتعديل وعلم رجال الحديث وعلم مختلف الحديث وعلم علل الحديث.. وعلى الرغم من ذلك لا يزال العقل المسلم المعاصر يواجه بعض المشكلات المنهجية في التعامل مع السنة النبوية من جهة، كما لا تزال السنة تواجه أحقادا وضغائن قديمة تتجدد باستمرار تحت دعاوى زائفة من العلم والمنهج العلمي والحيادية، وتسعى لنفي حجية السنة وإقصائها عن دورها التشريعي وإلغائها من حياة المسلمين.

* * * *
يمثل كتاب " كيف نتعامل مع السنة النبوية" للقرضاوي أحد المعالم الهامة لاجتهاد العقل المسلم المعاصر في التعامل مع السنة الشريفة، والبؤرة الأساسية للكتاب هى وضع منهاج واضح له آليات محددة وأدوات معينة في التعامل مع السنة النبوية بغرض فهمها فهما جيدا وتفعيلها في حياتنا المعاصرة ومن ثم تحقيق دورها المنوط بها والمنشود في تشكيل وتوجيه حياتنا الواقعية والفكرية. وقراءة هذا الكتاب والاستفادة منه لابد أن يقوم أولا على إدراك أن هناك رسالة معينة وراء هذا الكتاب، وأن إعداده وتأليفه وإخراجه إلى الواقع استند إلى رؤية معينة تجاه السنة النبوية عموما تقوم على محاولة إحداث تغيير نوعي في مجرى الدراسات المتعلقة بعلوم الحديث وذلك بهدف التحقيق الفعلي لأن تكون السنة النبوية- مع القرآن الكريم- المصدر الأساسي للمعرفة والثقافة والحضارة في حياتنا المعاصرة، وسوف يساعدنا في إدراك هذه الرؤية الكامنة وإدراك هذه الرسالة الوقوف عند تصدير الكتاب للدكتور طه جابر علواني، وقد كتب علواني هذا التصدير بحكم كونه رئيسا للمعهد العالمي للفكر الإسلامي آنذاك، وكان للمعهد رؤية معينة ورسالة محددة أراد أدائها وإبلاغها للواقع الإسلامي المعاصر ولمستقبله بصدد السنة النبوية الشريفة، ورأى المعهد أن فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي خير من يعبر عن هذه الرؤية وخير من يبلغ الرسالة. هذه الرؤية تقوم على أن مسألة حجية السنة النبوية أمر مسلم به ومفروغ منه وأمر محسوم تماما، ويقول علواني إن الاحتجاج بسنة رسول الله قائم كالاحتجاج بكتاب الله تعالى منذ ظهور الإسلام، والمسلمون كلهم يعلمون حجية السنة ولا يسع مؤمنا بالله ورسوله قول خلاف ذلك، لكن الذي حدث أن بعض المسائل المتعلقة بالأخبار والسنن والأحاديث وطرائق الإخبار أدت بالمسلمين إلى جدل عجيب وخلط غريب في مسألة حجية السنة كما نرى في الانشغال بمسألة حجية أخبار الآحاد ، وقد شغل ذلك مساحات واسعة في الدراسات الأصولية والحديثية، وكان بالأولى- في نظر علواني- أن يوجه المسلمون جهودهم وأبحاثهم لمجالات فهم السنة وطرائق فهمها وبناء مناهج الاستفادة منها، وذلك لإيجاد دراسات ومناهج تيسر للمسلمين بناء أفكارهم وتصوراتهم وثقافاتهم ومناهج حياتهم وواقعهم تستوحي توجيهات السنة النبوية ودروسها. هذه المعارك المفتعلة حول حجية السنة وخاصة أخبار الآحاد أدت إلى آثار سلبية في حياة المسلمين، فمن جهة كرست الفرقة والاختلاف بينهم ومن جهة ثانية جعلت مباحث علوم الحديث مباحث نظرية لا أثر لها في قيادة الواقع المسلم وهدايته. وبناءا على هذه الرؤية فان المعهد يسعى إلى تحويل مسار الدراسات الأصولية والحديثية إلى منحى آخر، منحى القضايا التي لم تحسم بعد والتي سيكون لها أثر حاسم في توجيه وإرشاد الواقع الإسلامي المعاصر، وهي القضايا المتعلقة بفهم السنة النبوية ومنهج دراستها وتحليلها في سائر أبعادها وكيفية اتخاذها مصدرا للمعرفة والثقافة والحضارة الإسلامية، فتحديد أصول الإسلام ومصادره وفهم المسائل وتوضيح القضايا المتعلقة بها وتحديد مناهج فهمها يعتبر الأساس الأهم في بناء العقل المسلم وإعادة بناء الأمة ثقافيا وحضاريا.
* * * *
يقدم القرضاوي منهجه المقترح في التعامل مع السنة النبوية ويحدد سماته عبر فصول الكتاب والتي تندرج تحت ثلاثة أبواب رئيسية، وفي ثنايا الشرح النظري يختبر القرضاوي صحة أدواته المنهجية بتطبيقها على كثير من الأحاديث النبوية والتي هي محل للنظر والخلاف بين المسلمين.
يبدأ القرضاوي بتعريف ماهية السنة النبوية ومكانتها في الإسلام، وتحديد سماتها المميزة لها، ويمثل التعريف والتحديد هنا أول أداة لتمييز السنة النبوية عن غيرها والاحتفاظ لها بكيان محدد الملامح يستبعد عنه الآثار والأخبار المخالفة لروح السنة النبوية والتي قد تكون اختلطت بها غفلة أو قصدا.
والسنة النبوية تمثل المنهج العملي الإسلامي بخصائصه وأركانه وتتمثل في السنة القولية والفعلية والتقريرية، وتمثل الحكمة النبوية في بيان القرآن وشرح حقائق الإسلام وتعليمه للأمة. وتتميز السنة أو هذا المنهج العملي بسمات معينة فهي منهج شمولي، ومتوازن، ومتكامل، وواقعي، وميسر.
وعلى العقل المسلم أن يتخلص من آفات ثلاثة قبل البدء في التعامل مع السنة، هذه الآفات تمثل معوقات أمام الفهم الصحيح للسنة، وتمثل خطرا على الميراث النبوي وهي: 1- تحريف أهل الغلو: والمقصود الغلو الذي يخرج بالدين من وسطيته وسماحته ويسره. 2- انتحال أهل الباطل: يأس أهل الباطل أن يدخلوا تحريفاتهم إلى القرآن الكريم فظنوا أن الأمر يسير بالنسبة إلى السنة النبوية، لكن علماء الأمة قعدوا لهم كل مرصد ووضعوا شروطا وتشددوا فيها لقبول الأحاديث، لكن للأسف تسللت أباطيل وأحاديث موضوعة وراجت بين العوام رغم كذبها وبطلانها، مثل بعض الأحاديث المتعلقة بالمرأة مثل " دفن البنات من المكرمات" و" شاوروهن وخالفوهن"، وبعضها ضد عقيدة التوحيد مثل القول" لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه"، وللأسف تحفل كتب التصوف والمواعظ والرقائق بأمثال هذه الأحاديث الموضوعة. 3- تأويل أهل الجهل: هو تأويل من يلبسون رداء العلماء بينما هم جهلاء، وبسوء تأويلهم يدخلون في الدين ما ليس منه أو يخرجون منه ما هو من صلبه.
* * * *
والتعامل مع السنة له مبادئ أساسية لابد أن يجيدها المسلم ويطبقها ويسأل فيها العلماء الثقاة، وهذه المبادئ هي: 1- الاستيثاق من ثبوت السنة وصحتها، وذلك حسب الموازين العلمية الدقيقة التي وضعها العلماء. وهذا المبدأ يسير لأن المسلمين أعطوا للسنة النبوية حقها من العناية العلمية والبحث العلمي الدقيق حتى وصلت علوم الحديث إلى عشرات العلوم- عند ابن الصلاح 65 علما وعند السيوطي 93 علما- وهي كلها تسعى لتمحيص صحيح الحديث من سقيمه. لكن بعض هذه العلوم فيها مسائل خلافية لذا يجب حسم هذه المسائل، ويقترح القرضاوي الأخذ بأراء العلماء المتقدمين لأنهم كانوا أكثر شجاعة ودقة من المتأخرين في رفض الأحاديث الضعيفة.
2- حسن فهم النص النبوي وفق الدلالات اللغوية، وفي ضوء سياق الحديث وسبب وروده، وفي ظلال النصوص القرآنية والنبوية الآخرى، ووفقا للمقاصد الكلية للإسلام، وفي ضوء التفرقة بين ما جاء في السنة كتشريع له صفة العمومية وما جاء كتخصيص له صفة التأقيت.
3- سلامة النص النبوي من معارض أقوى: قد يكون هذا المعارض نصا قرآنيا أو نصوصا نبوية أخرى أوفر عددا أو أكثر ثبوتا، أو قد يكون المعارض أحد مقاصد الشريعة التي اكتسبت القطعية لأنها مستقاة من عدد وافر من النصوص والأحكام.
ويرفض القرضاوي رفضا تاما استخدام الأحاديث الموضوعة ويرفض التسامح الذي أبداه بعض العلماء تجاه استخدام تلك الاحاديث في باب فضائل الأعمال والرقائق والترغيب والترهيب، ويرى أن كل الفضائل التي ترغب فيها الأحاديث المكذوبة، وكل الرذائل التي تنفر منها يمكن لنا التوصل إليها بالأحاديث الصحيحة والحسان، فلا حاجة لنا بهذا الكذب والذي يعتبر هنا من أكبر الكبائر. وإذا كان استخدام تلك الاحاديث شاع قديما بين العوام فان آفة حديثة تنتشر بين من يعتبرون أنفسهم من النخبة والعلماء وهي آفة رد الحديث الصحيح، ويساوي القرضاوي بين قبول الحديث الموضوع ورفض الحديث الصحيح في الخطأ والخلل والخطر، وهؤلاء يردون الصحاح بالهوى والعجب والتعالم على الله ورسوله، وسوء الظن بعلماء الأمة في خير قرونها. ويضرب القرضاوي أمثلة لرفض بعض الأحاديث الصحيحة، ويقوم الرفض على سوء فهم وتعجل وافتراض معنى ما بعيد عن المعنى الحقيقي للحديث فيسرع المتعالم منهم في جرأة وبجاحة إلى رفض الحديث الصحيح، مثال الكاتب الذي رفض حديث" كان يأمرني فآتزر فيعاشرني وأنا حائض" لأنه يتعارض مع الآية القرآنية " يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن"، ومثل رفض بعضهم حديث " اللهم احيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين"، كما رفض بعضهم حديث " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"، ومن عجائب رفضهم لبعض الصحاح رفضهم لحديث" بني الإسلام على خمس..". وقد فند القرضاوي كل مسألة وبين سوء فهم هؤلاء لهذه الأحاديث وبعدهم عن المعاني الصحيحة لها، وأثبت أنها احاديث صحاح. ولا يكتف القرضاوي بذلك، بل يفرد فقرة لموقف السيدة عائشة من بعض الأحاديث والتي رفضتها لظنها أنها مخالفة للقرآن أو لأصول الإسلام مثل موقفها من حديث تعذيب المرأة التي حبست الهرة ولم تطعمها، ويقول القرضاوي إن تعذيب المرأة لأن قلبها خلا من الرحمة ولا يدخل الجنة إلا رحيم، ويقول إن هذا الحديث مفخرة للإسلام في مجال القيم الإنسانية التي تحترم كل مخلوق حي، بالإضافة إلى أن الحديث رواه آخرون غير أبو هريرة والذي استنكرت السيدة عائشة روايته لهذا الحديث.

* * * *
يفرد القرضاوي فصلين لكيفية التعامل مع السنة النبوية في مجالي الفقه والدعوة وذلك بحكم أن هذين المجالين الأكثر استخداما لها.
السنة النبوية في مجال الفقه والتشريع: السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله عز وجل، وهي المورد الأوسع الذي ينهل منه جميع الفقهاء والمشرعين على اختلاف مدارسهم، ويرفض القرضاوي الزعم بأن مدرسة الرأى في العراق و مؤسسها أبو حنيفة لم تكن تأخذ بالحديث في التشريع، فالجميع أخذ من السنة واحتكم إليها. ومع أهمية وضرورة السنة للفقه إلا أنه هناك فجوة علمية بين المشتغلين بالفقه والمشتغلين بالحديث، ويجب على المشتغلين بالفقه إجادة علوم الحديث لأنهم يحتجون في أحكامهم للحلال والحرام والاستحباب بأحاديث قد لا تثبت أمام نقد صيارفة الحديث وعلمائه الخبيرين، بل قد تشيع بينهم أحاديث لا أصل لها. ويعطي القرضاوي أمثلة كثيرة لأحاديث مذكورة في كتب الفقه ضعيفة جدا أو ليس لها سند، ويطالب بضرورة مراجعة تراثنا الفقهي في ضوء ربطه بعلوم الحديث للنظر في الأحكام الفقهية التي بنيت على أحاديث ضعيفة لأن الحديث الضعيف لا يحكم ولا يبنى عليه تكليف حلال أو حرام. ويقوم بنفسه بمراجعة بعض الأحكام الفقهية التي قامت على أحاديث لا ترق إلى درجة الصحاح، ويرفض هذه الأحكام لأنها قامت على أساس خاطئ ويجتهد في مسائلها للوصول إلى أحكام أخرى تتفق مع نصوص القرآن ومع نصوص نبوية أخرى، وقد فعل ذلك في مسألتي دية غير المسلم ودية المرأة.

السنة في مجال الدعوة والتوجيه: تمد السنة مجال الدعوة بما يحتاجه من التوجيهات المشرقة والحجج الدامغة والحكم البالغة والكلم الجامعة والمواعظ المؤثرة والأمثال المعبرة والقصص الهادفة .. وهي تسير مع القرآن الكريم في مخاطبة الإنسان كله: عقله وقلبه وضميره.... لكن للأسف الشديد- حسب ما يقول الكاتب- فان بضاعة كثير من الدعاة والمرشدين الدينيين تعتمد على الأحاديث الواهية والموضوعة والمنكرة. وفي هذا الجزء يستكمل القرضاوي حملته الدامغة المستنكرة لاستعمال الأحاديث الضعيفة والمنكرة في صفحات طوال مليئة بالدلائل الشرعية والعقلية، وفي لغة قوية الحجة، ناصعة البرهان والبيان. ومن المهم هنا أن نتعرض ولو بإيجاز لأوجه نقده القوية. في البدء يطلب القرضاوي من الداعية أن يتحرى صحة الحديث عند استشهاده به، وهذا أمر مطلوب من أهل العلم جميعا ألا وهو الاعتماد على المصادر الموثوق والتحرر من الأحاديث الواهية والموضوعة والتي تمتلأ بها الكثير من الكتب الدينية، وينبغي على الداعية ألا ينخدع بشهرة الحديث وتداوله بين الناس لأن الكثير من المتداول لا أصل له أو موضوع أو شديد الضعف. ويتجاوز القرضاوي النهي والتحذير إلى بحث الأمر في أصله، بمعنى أنه يبحث عن المبرر الذي يستند إليه كثير من الدعاة في استعمال الأحاديث الضعيفة والواهية في خطبهم ودروسهم، فيجد قولا مطلقا شائعا فحواه أن جمهور العلماء يجيزون رواية الحديث الضعيف في فضائل الأعمال والرقائق والزهد والترغيب والترهيب والزهد ومما لا يتعلق بحكم شرعي من حل وحرمة وكراهة وإيجاب واستحباب، ويرد القرضاوي عليهم بأن الأمر ليس على هذا النحو من الإطلاق، ولم يقل أحد من علماء الحديث بجواز الرواية في مجال الترغيب والترهيب عن كل من دب وهب من الرواة، بل رفضوا الرواية عن المجهولين والمتهمين وفاحشي الغلط، وأجازوا الرواية عن البعض ممن في حفظهم ضعف ولين -وإن لم يكونوا من الرؤساء المشهورين في العلم- فهم لا ريبة في صدقهم وعدالتهم إنما الريبة في حفظهم وإتقانهم. وقد وضع بعض العلماء شروطا لقبول الضعيف هي : - ألا يكون شديد الضعف - أن يكون مندرجا تحت أصل عام - عند العمل بالضعيف لا يقال بثبوته حتى لا ينسب إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- ما لم يقله. ثم يقدم القرضاوي مجموعة من الحقائق تمثل ضوابط محكمة ودقيقة لإجازة الرواية عن الضعيف كما يلي: 1- هناك علماء قديما وحديثا لا يفرقون بين أحاديث الأحكام وأحاديث الترغيب والترهيب والرقائق ونحوها، ويقبلون في النوعين الحديث الصحيح والحديث الحسن فقط. 2- الشروط الثلاثة التي وضعت للأخذ بالضعيف لم يعمل بها -للأسف- الكثيرون. 3- نبه العلماء على أمر هام وهو ألا يقال في الحديث الضعيف: قال رسول الله، بصيغة الجزم والتوكيد، ويتجاهل الكثير من الوعاظ والمرشدين ذلك فيقولون قال رسول الله في روايتهم للحديث الضعيف. 4- إذا كان لدينا في موضوع ما حديث أو أكثر صحيح أو حسن، وفي نفس الموضوع حديث أو أكثر ضعيف، فيجدر بنا الاستغناء بالنوع الاول عن الثاني الضعيف. 5- تحتوي أحاديث الرقائق والترغيب والترهيب على أمر خطير وهو
" اختلال النسب " الموضوعة شرعا للتكاليف والأحكام، وهذه الاحاديث تعطي قيمة أكبر لبعض الأعمال الصالحة، أكبر من حجمها وأكثر مما تستحقه حتى تطغى على ما هو أهم منها في الدين، وأيضا على النقيض قد تعطي أهمية أكبر لأعمال محظورة وتشدد على العقاب فيها أكثر من أمور أخرى أهم منها.
6- العلماء الذين أجازوا رواية الضعيف بشروطه قصدوا بذلك الحث على عمل ثبت صلاحه بالأدلة الشرعية المعتبرة أو النهي عن عمل ثبت ضرره بالأدلة الشرعية المعتبرة، فالحديث الضعيف في حد ذاته لا يثبت صلاح العمل أو سوءه، وهذا ما يفعله المعاصرون الذين يثبتون العمل بالحديث الضعيف. 7- إذا قبلنا رواية الضعيف في الترغيب والترهيب بالشروط التي وضعها العلماء فيجب أن يضاف إليهما شرطان جديدان- أي أن القرضاوي هو الذي يقترحهما- وهما ألا يحتوي على مبالغات وتهويلات يرفضها الشرع أوالعقل أواللغة، وألا يتعارض هذا الحديث مع دليل شرعي أقوى منه.

* * * *
أغلب الضوابط السابقة يمكن إدراجها في ضرورة التثبت من صحة الحديث والرجوع إلى المصادر الموثوقة من كتب الصحاح والمسانيد، وعدم الانخداع بشهرة الحديث وكثرة تداوله بين الناس لأن بعض هذه الاحاديث لا أصل لها، كذلك ضرورة تنقية الكثير من المصادرالقديمة وخصوصا في مجال فضائل الأعمال والزهد والمليئة بالكثير من الموضوعات والمنكرات، وضرورة تطبيق معايير صارمة في مجال رواية الضعيف، وإن كان القرضاوي نفسه من أنصار عدم رواية الضعيف على الإطلاق وضرورة الاكتفاء بالصحيح والحسن، لكنه بخبرته بالواقع المعاش أدرك أن الكثيرين ممن يعملون في توجيه الناس ليسوا من أنصار هذا الرأى، لذا عمل على إحكام وتهذيب استعمال الضعيف مع رفضه التام للموضوعات وما لا أصل لها. لكن ماذا عن فهم الحديث نفسه بعد أن طبقنا الشروط والضوابط السابقة؟ كيف نفهم السنة النبوية وكيف نتعامل مع معانيها ومضامينها؟ تأتي الإجابات في الباب الأخير من الكتاب تحت عنوان " معالم وضوابط لحسن فهم السنة النبوية"، ويخصص لكل معلم فصلا كاملا.
المعلم الأول: فهم السنة في ضوء القرآن الكريم: القرآن الكريم هو أساس بنيان الإسلام ودستوره الأصلي والدائم.. والسنة شارحة هذا الدستور ومبينته، فهي الشرح النظري والتطبيق العملي له.. وعليه فلا يمكن للبيان أن يعارض المبين، ولا أن يناقض الفرع الأصل، ولهذا لا توجد سنة صحيحة ثابتة تعارض محكمات القرآن، وإذا وجدنا سنة نبوية تعارض القرآن وتناقضه تناقضا صريحا فلابد أن ندرك أنها مردودة وليست من السنة أصلا، وإنما وضع وكذب، ومثال ذلك حديث الغرانيق، ومثال حديث الوائدة والموءودة في النار.
الثاني: جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد: بحيث يرد متشابهها إلى محكمها، ويحمل مطلقها على مقيدها، ويفسر عامها بخاصها، وهكذا تفسر السنة بالسنة، ومثال ذلك تفسير المقصود من حديث إسبال الإزار من خلال مجموعة الاحاديث التي وردت فيه.
الثالث: الجمع أو الترجيح بين مختلف الحديث: الأصل في النصوص الشرعية ألا تتعارض لأن الحق لا يعارض الحق، فإذا وجد تعارض بين حديثين صحيحين يمكن الجمع بينهما بتأويل أحدهما، فإذا لم يمكن الجمع نعمل على ترجيح أحدهما واستبعاد الآخر.
الرابع: فهم الأحاديث في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها: السنة تعالج أحيانا مشكلات آنية وجزئية وفيها من التفاصيل ما ليس في القرآن، لذا يجب الانتباه فيها إلى ما هو مؤقت وما هو دائم، وما هو خاص وما هو عام، وما هو كلي وما هو جزئي.
الخامس: التمييز بين الوسيلة المتغيرة والهدف الثابت للحديث: يخلط الكثير بين الاثنين، مثلا التفاصيل الموجودة في الطب النبوي هي وسائل متغيرة أما الهدف الثابت فهو ضرورة المحافظة على الحياة والصحة العامة وضرورة التداوي من المرض وأيضا الحفاظ على الصحة العقلية و النفسية.
السادس: التفريق بين الحقيقة والمجاز في فهم السنة: للمجاز نصيب موفور في اللغة العربية، والنبي – صلى الله عليه وسلم- أبلغ من تكلم بها، لذا نجد في كلامه كثير من المجاز المعبر عن المعنى المقصود بأروع طريقة. وبعض الأحاديث تثير مشكلات إذا أخذت الألفاظ على دلالتها الحقيقية، أما إذا فهمت من جهة المجاز زال الإشكال وبرز معناها واضحا لا لبس فيه. مثل حديث شكوى النار إلى ربها، وحديث استعاذة الرحم بالله عز وجل. ويحذر القرضاوي من التوسع في تأويل المجاز كما يرفض أيضا إنكاره، كذلك يرفض تأويلات الباطنية وبعض التأويلات المعاصرة.
السابع: التفريق بين الغيب والشهادة: توسعت السنة في تفاصيل أمور غيبية كثيرة، والمعيار لنا في قبول أو رفض هذه السنة هو معيار ثبوت هذه السنة، فإذا ثبتت حسب قواعد العلماء وشروطها فهي سنة صحيحة وعلينا أن نقبل بما تقوله حتى وإن بدا مخالفا لما عهدناه وعرفناه، وقد قرر العلماء أن الدين قد يأتي بما يحار فيه العقول، ولكنه لا يأتي بما يحيله العقل.
الثامن: التأكد من مدلولات ألفاظ الحديث: ويحذر هنا من إسقاط معاني الألفاظ الجديدة على ألفاظ الحديث، فمع مرور الزمن وتغير الأحوال تزداد الشقة بين المدلول الشرعي الأصلي للفظ والمدلول العرفي أو الاصطلاحي المتأخر.
* * * *
هذا الكتاب العظيم بقواعده وضوابطه، بأمثلته ومناقشاته، ببراهينه وحججه، بنقده وتفنيده، بمبادئه الكلية النظرية وتفصيلاته الجزئية المستمدة من المصادر المختلفة للسنة النبوية، بأحكامه الحاسمة في بعض القضايا الخلافية، بهجومه الشامل شرعيا وعقليا على استخدام الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة، بأدواته المنهجية لفهم السنة وسبر أغوارها والغرف من كنوزها، بمناهجه لإخراج السنة النبوية إلى مكانتها اللائقة في تشكيل وتوجيه وإرشاد حياتنا الإسلامية المعاصرة...يستحق بل ويجب أن يقرأه كل مسلم، بل قراءته فرض عين على كل من تصدر للمسلمين بالدرس والعظة والإرشاد والفقه. وأحسب أن عرضي هذا يقصر بشدة عن إيفاء ما لهذا الكتاب من قيمة وأهمية، لكن يكفيني أن يكون دافعا لقارئه أن يقرأ الكتاب بنفسه.
________________

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق